فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{عبس وَتولى (1)}
افتتاح هذه السورة بفعلين متحملين لضمير لا معاد له في الكلام تشويق لما سيورد بعدهما، والفعلان يشعران بأن المحكي حادث عظيم، فأما الضمائر فيبين إبهامها قوله: {فأنت له تصدى} [عبس: 6] وأما الحادث فيتبين من ذكر الأعمى ومَن استغنى.
وهذا الحادث سبب نزول هذه الآيات من أولها إلى قوله: {بررة} [عبس: 16].
وهو ما رواه مالك في (الموطأ) مرسلاً عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: «أنزلت {عبس وتولى} في ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا محمد استدنني، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه (أي عن ابن أم مكتوم) ويُقبل على الآخر، ويقول: يا أبا فلان هل ترى بما أقول بأساً فيقول: لا والدِّماء ما أرى بما تقول يأساً، فأنزلت: {عبس وتولى}».
ورواه الترمذي مسنداً عن عروة عن عائشة بقريب من هذا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وروى الطبري عن ابن عباس: «أن ابن أم مكتوم جاء يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم آيةً من القرآن» ومثله عن قتادة.
وقال الواحدي وغيره: «كان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ يناجي عتبَة بن ربيعة وأبا جهل، والعباسَ بن عبد المطلب، وأبيَّ بن خلف، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل على الوليد بن المغيرة يَعرض عليهم الإِسلام».
ولا خلاف في أن المراد بـ: {الأعمى} هو ابن أم مكتوم.
قيل: اسمه عبد الله وقيل: اسمه عَمْرو، وهو الذي اعتمده في (الإِصابة)، وهو ابن قيس بن زائدة من بني عامر بن لؤي من قريش.
وأمه عاتكة، وكنيت أمَّ مكتوم لأن ابنها عبد الله ولد أعمى والأعمى يكنى عنه بمكتوم.
ونسب إلى أمه لأنها أشرف بيتاً من بيت أبيه لأن بني مخزوم من أهل بيوتات قريش فوق بني عامر بن لؤي.
وهذا كما نسب عَمْرو بن المنذر ملكُ الحِيرة إلى أمه هند بنت الحارث بن عمرو بن حُجر آكِل المُرار زيادة في تشريفه بوراثة الملك من قبل أبيه وأمه.
ووقع في (الكشاف): أن أم مكتوم هي أم أبيه.
وقال الطيبي: إنه وهَم، وأسلم قديماً وهاجر إلى المدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وتوفي بالقادسية في خلافة عمر بعد سنة أربع عشرة أو خمس عشرة.
وفيه نزلت هذه السورة وآيةُ {غيرَ أُولي الضرر} من سورة النساء (95).
وكان النبي يحبّه ويُكرمه وقد استخلفه على المدينة في خروجه إلى الغزوات ثلاث عشرة مرة، وكان مؤذِّنَ النبي هو وبلال بن رباح.
والعُبوسُ بضم العين: تقطيب الوجه وإظهار الغضب.
ويقال: رجل عَبوس بفتح العين، أي متقطب، قال تعالى: {إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً} [الإنسان: 10].
وعبس من باب ضرَب.
والتولي: أصله تحوّل الذات عن مكانها، ويستعار لعدم اشتغال المرء بكلام يلقَى إليه أو جليس يحلّ عنده، وهو هنا مستعار لعدم الاشتغال بسؤال سائل ولعدم الإِقبال على الزائر.
وحذف متعلق {تولى} لظهور أنه تولَ عن الذي مجيئه كان سبب التولي.
وعبر عن ابن أم مكتوم بـ: {الأعمى} ترقيقاً للنبيء صلى الله عليه وسلم ليكون العتاب ملحوظاً فيه أنه لما كان صاحب ضَرارة فهو أجدر بالعناية به، لأن مثله يكون سريعاً إلى انكسار خاطره.
و{أن جاءه الأعمى} مجرور بلام الجر محذوفٍ مع {أن} وهو حذف مطرد وهو متعلق بفعلي {عبس وتولى} على طريقة التنازع.
والعلم بالحادثة يدل على أن المراد مجيء خاص وأعمى معهود.
وصيغة الخبر مستعملة في العتاب على الغفلة عن المقصود الذي تضمنه الخبر وهو اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتناء بالحرص على تبليغ الدعوة إلى من يرجو منه قبولَها مع الذهول عن التأمل فيما يقارن ذلك من تعليم من يرغب في علم الدين ممن آمن، ولما كان صدور ذلك من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم لم يشأ الله أن يفاتحه بما يتبادر منه أنه المقصود بالكلام، فوجهه إليه على أسلوب الغيبة ليكون أول ما يقرع سمعه باعثاً على أن يترقب المعنى من ضمير الغائب فلا يفاجئه العتاب، وهذا تلطف من الله برسوله صلى الله عليه وسلم ليقع العتاب في نفسه مدرجاً وذلك أهون وقعاً، ونظير هذا قوله: {عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43].
قال عياض: قال عون بن عبد الله والسمرقندي: أخبره الله بالعفو قبل أن يخبره بالذنب حتى سكن قلبه. اهـ.
فكذلك توجيه العتاب إليه مسنداً إلى ضمير الغائب ثم جيء بضمائر الغيبة فذكر الأعمى تظهر المراد من القصة واتضح المراد من ضمير الغيبة.
ثم جيء بضمائر الخطاب على طريقة الالتفات.
ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجا من ذلك المجلس أن يُسلموا فيسلم بإسلامهم جمهور قريش أو جميعهم فكان دخول ابن أم مكتوم قطعاً لسلك الحديث وجعل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله استدنني، علمني، أرشدني، ويناديه ويكثر النداء والإِلحاح فظهرت الكراهية في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم لعله لقطعه عليه كلامه وخشيته أن يفترق النفر المجتمعون، وفي رواية الطبري أنه استقرأ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن.
وجملة {وما يدريك} إلخ في موضع الحال.
{وما يدريك} مركبة من {ما} الاستفهامية وفعل الدّراية المقترن بهمزة التعدية، أي ما يجعلك دارياً أي عالماً.
ومثله: {ما أدراك} كقوله: {وما أدراك ما الحاقة} [الحاقة: 3].
ومنه {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون}
في سورة الأنعام (109).
والاستفهام في هذه التراكيب مراد منه التنبيه على مغفول عنه ثم تقع بعده جملة نحو {ما أدراك ما القارعة} [القارعة: 3] ونحو قوله هنا: {وما يدريك لعله يزكى}.
والمعنى أيُّ شيء يجعلك دارياً.
وإنما يستعمل مثله لقصد الإجمال ثم التفصيل.
قال الراغب: ما ذكر ما أدراك في القرآن إلا وذكر بيانه بعده. اهـ.
قلت: فقد يُبينه تفصيلٌ مثل قوله هنا: {وما يدريك لعله يزكى} وقوله: {وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 2 3] وقد يقع بعده ما فيه تهويل نحو: {وما أدراك ماهيه} [القارعة: 10] أي ما يعلمك حقيقتها وقوله: {وما أدراك ما الحاقة} [الحاقة: 3] أي أيُّ شيء أعلمك جواب: {ما الحاقة}.
وفعل: {يدريك} معلق عن العمل في مفعوليه لورود حرف (لعلّ) بعده فإن (لعل) من موجبات تعليق أفعال القلوب على ما أثبته أبو على الفارسي في (التذكرة) إلحاقاً للترجي بالاستفهام في أنه طلب.
فلما علق فعل {يدريك} عن العمل صار غير متعدَ إلى ثلاثة مفاعيل وبقي متعدياً إلى مفعول واحد بهمزة التعدية التي فيه فصار ما بعده جملة مستأنفة.
والتذكر: حصول أثر التذكير، فهو خطور أمر معلوم في الذهن بعد نسيانه إذ هو مشتق من الذُّكر بضم الذال.
والمعنى: انظر فقد يكون تزكِّيهِ مرجواً، أي إذا أقبلت عليه بالإِرشاد زاد الإِيمان رسوخاً في نفسه وفَعل خيرات كثيرة مما ترشده إليه فزاد تزكية، فالمراد بـ: {يتزكى} تزكية زائدة على تزكية الإِيمان بالتملّي بفضائل شرائعه ومكارم أخلاقه مما يفيضه هديك عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة» إذ الهدى الذي يزداد به المؤمن رفعة وكمالاً في درجات الإِيمان هو كاهتداء الكافر إلى الإيمان لاسيما إذ الغاية من الاهتداءين واحدة.
و{يزكّى} أصله: يتزكى، قلبت التاء زاياً لتقارب مخرجيهما قصداً ليتأتى الإِدغام وكذلك فُعِل في {يذكر} من الإِدغام.
والتزكّي: مطاوع زكَّاه، أي يحصل أثر التزكية في نفسه.
وتقدم في سورة النازعات.
وجملة {أو يذكر} عطف على {يزَّكَّى}، أي ما يدريك أن يحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم، أي تحصل الذكرى في نفسه بالإِرشاد لما لم يكن يعلمه أو تذكر لِما كان في غفلة عنه.
والذكرى: اسم مصدر التذكير.
وفي قوله تعالى: {فتنفعه الذكرى} اكتفاء عن أن يقول: فينفعه التزكي وتنفعه الذكرى لظهور أن كليهما نفع له.
والذكرى: هو القرآن لأنّه يذكر الناس بما يغفلون عنه قال تعالى: {وما هو إلا ذكر للعالمين} [القلم: 52] فقد كان فيما سأل عنه ابن أم مكتوم آيات من القرآن.
وقرأ الجمهور: {فتنفعه} بالرفع عطفاً على (يذكر).
وقرأه عاصم بالنصب في جواب: {لعله يزكى}.
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تصدى (6)}
تقدم الكلام على {أمَّا} في سورة النازعات أنها بمعنى: مهما يكن شيء، فقوله: {أما من استغنى} تفسيره مهما يكن الذي استغنى فأنت له تصدى، أي مهما يكن شيء فالذي استغنى تتصدى له، والمقصود: أنت تحرص على التصدي له، فجعل مضمون الجواب وهو التصدّي له معلقاً على وجود من استغنى وملازماً له ملازمة التعليققِ الشرطي على طريقة المبالغة.
والاستغناء: عدّ الشخص نفسه غنياً في أمر يدل عليه السياق قول، أو فعل أو علم، فالسين والتاء للحسبان، أي حسب نفسه غنياً، وأكثر ما يستعمل الاستغناء في التكبر والاعتزاز بالقوة.
فالمراد بـ: {من استغنى} هنا: مَن عدّ نفسه غنياً عَن هديك بأن أعرض عن قبوله لأنه أجاب قول النبي صلى الله عليه وسلم له: «هل ترى بما أقول بَأساً»، بقوله: لا والدماء...كناية عن أنه لا بأس به يريد ولكني غيرُ محتاج إليه.
وليس المراد بـ: {من استغنى} من استغنى بالمال إذ ليس المقام في إيثار صاحب مال على فقير.
وهذا الذي تصدى النبي صلى الله عليه وسلم لدعوته وعرض القرآن عليه هو على أشهر الأقوال المروية عن سلف المفسرين الوليد بن المغيرة المخزومي كما تقدم.
والإِتيان بضمير المخاطب مُظهراً قبلَ المسند الفعلي دون اسْتِتاره في الفعل يجوز أن يكون للتقوي كأنه قيل: تتصدى له تصدياً، فمناط العتاب هو التصدي القوي.
ويجوز أن يكون مفيداً للاختصاص، أي فأنت لا غيرُك تَتصدى له، أي ذلك التصدّي لا يليق بك.
وهذا قريب من قولهم: مثلُك لا يبخل، أي لو تصدى له غيرك لكان هَوناً، فأما أنت فلا يتصدى مثلك لمثله فمناط العتاب هو أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في جليل قدره.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد الصاد على إدغام إحدى التاءين في الصاد.
والباقون بالفتح وتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين.
والتصدّي: التعرض، أطلق هنا على الإِقبال الشديد مجازاً.
{وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)}
جملة معترضة بين جملة {أما من استغنى} [عبس: 5] وجملة: {وأما من جاءك يسعى} [عبس: 8]، والواو اعتراضية.
و{ما} نافية و{عليك} خبر مقدم.
والمبتدأ {ألا يزكى}، والمعنى: عدم تزكّيه ليس محمولاً عليك، أي لست مؤاخذاً بعدم اهتدائه حتى تزيد من الحرص على ترغيبه في الإِيمان ما لم يكلفك الله به.
وهذا رفق من الله برسوله صلى الله عليه وسلم
{وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)}
عطف على جملة {أما من استغنى} [عبس: 5] اقتضى ذكره قصد المقابلة مع المعطوف عليها مقابلة الضدين إتماماً للتقسيم.
والمراد: بمن جاء يسعى: هو ابن أم مكتوم، فحصل بمضمون هذه الجملة تأكيد لمضمون {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} [عبس: 1 2].
والسعي: شدة المشي، كُنِي به عن الحرص على اللقاء فهو مقابل لحال من استغنى لأن استغناءه استغناء المُمْتَعِض من التصدّي له.
وجملة {وهو يخشى} في موضع الحال، وحذف مفعول {يخشى} لظهوره لأن الخشية في لسان الشرع تنصرف إلى خشية الله تعالى.
والمعنى: أنه جاء طلباً للتزكية لأن يخشى الله من التقصير في الاسترشاد.
واختير الفعل المضارع لإفادته التجدد.
والقول في {فأنت عنه تلهى} كالقول في: {فأنت له تصدى} [عبس: 6].
والعبرة من هذه الآيات أن الله تعالى زاد نبيئه صلى الله عليه وسلم علماً عظيماً من الحكمة النبوية، ورفعَ درجة علمه إلى أسمى ما تبلغ إليه عقول الحكماء رعاةِ الأمم، فنبهه إلى أن في معظم الأحوال أو جميعها نواحيَ صلاح ونفع قد تخفى لقلة اطرادها، ولا ينبغي ترك استقرائها عند الاشتغال بغيرها ولو ظنه الأهم، وأنّ ليس الإِصلاح بسلوك طريقة واحدة للتدبير بأخذ قواعد كلية منضبطة تشبهُ قواعد العلوم يطبقها في الحوادث ويغضي عما يعارضها بأن يسرع إلى ترجيح القَويّ على الضعيف مِما فيه صفة الصلاح، بل شأن مقوّم الأخلاق أن يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى الطبائع والأمزجة فلا يجعل لجميع الأمزجة علاجاً واحدًّا بل الأمر يختلف باختلاف الناس.
وهذا غور عميق يخاض إليه من ساحل القاعدة الأصولية في باب الاجتهاد القائلة: إن المجتهد إذا لاح له دليل: (يبحث عن المعارض) والقاعدة القائلة: إن لله تعالى حكماً قبل الاجتهاد نصب عليه أمارة وكلف المجتهد بإصابته فإن أصابه فله أجران وإن أخطأه فله أجر واحد.
فإذا كان ذلك مقام المجتهدين من أهل العلم لأنه مستطاعهم فإن غوْره هو اللائق بمرتبة أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فيما لم يرد له فيه وحي، فبحثُه عن الحكم أوسع مدىً من مدى أبحاث عموم المجتهدين، وتنقيبه على المعارض أعمق غَوراً من تناوشهم، لئلا يفوت سيدَ المجتهدين ما فيه من صلاح ولو ضعيفاً، ما لم يكن إعماله يُبطل ما في غيره من صلاح أقوى لأن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع اجتهاده قائم مقام الوحي فيما لم يُوحَ إليه فيه.
فالتزكية الحق هي المِحْور الذي يدور عليه حال ابن أم مكتوم وحال المشرك من حيث إنها مرغوبة للأول ومزهود فيها من الثاني، وهي مرمى اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحصيلها للثاني والأمن على قرارها للأول بإقباله على الذي يتجافى عن دعوته، وإعراضه عن الذي يعلم من حاله أنه متزكَ بالإِيمان.
وفي حاليهما حالان آخران سرُّهما من أسرار الحكمة التي لقنها الله نبيئه صلى الله عليه وسلم وهو يخفى في معتاد نظر النظار فأنبأه الله به ليزيل عنه ستار ظاهر حاليهما، فإن ظاهر حاليهما قاض بصرف الاهتمام إلى أحدهما وهو المشرك لدعوته إلى الإِيمان حين لاح من لِين نفْسه لسماع القرآن ما أطْمَعَ النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد اقتربَ من الإِيمان فمحَّض توجيه كلامه إليه لأن هدي الناس إلى الإِيمان أعظم غرض بُعث النبي صلى الله عليه وسلم لأجله، فالاشتغال به يَبْدُو أهمّ وأرجحَ من الاشتغال بمن هو مؤمن خالص، وذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم غير أن وراء ذلك الظاهر حالاً آخر كامناً عَلِمه الله تعالى العالم بالخفيات ولم يوححِ لرسوله صلى الله عليه وسلم التنقيب عليه وهو حال مؤمن هو مظنة الازدياد من الخير، وحال كافر مصمم على الكفر تؤذن سوابقه بعناده وأنه لا يفيد فيه البرهان شيئاً.
وإن عميق التوسم في كلا الحالين قد يكشف للنبيء صلى الله عليه وسلم بإعانة الله رجحانَ حال المؤمن المزداد من الرشد والهدي على حال الكافر الذي لا يغُر ما أظهره من اللين مصانعةً أو حياءً من المكابرة، فإن كان في إيمان الكافر نفع عظيم عام للأمة بزيادة عددها ونفع خاص لذاته.
وفي ازدياد المؤمن من وسائل الخير وتزكية النفس نفع خاص له والرسول راع لآحاد الأمة ولمجموعها، فهو مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد بحيث لا يدحض مصالح الآحاد لأجل مصالح المجموع إلا إذا تعذر الجمع بين الصالح العام والصالح الخاص، بيد أن الكافر صاحبَ هذه القضية تنبئ دخيلتُه بضعف الرجاء في إيمانه لو أطيل التوسم في حاله، وبذلك تَعطل الانتفاعُ بها عموماً وخصوصاً وتمخض أن لتزكية المؤمن صاحب القضية نفعاً لخاصة نفسه ولا يخلو من عَود تزكية بفائدة على الأمة بازدياد الكاملين من أفرادها.
وقد حصل من هذا إشعار من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن الاهتداء صنوف عديدة وله مراتب سامية، وليس الاهتداء مقتصراً على حصول الإِيمان مراتبَ وميادينَ لسبق همم النفوس لا يُغفل عن تعهدها بالتثبيت والرعي والإِثمار، وذلك التعهد إعانة على تحصيل زيادة الإِيمان.
وتلك سرائر لا يعلم حقها وفروقها إلا الله تعالى.
فعلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خليفة الله في خلقه أن يتوخاها بقدر المستطاع، فما أوحى الله إليه في شأنه اتبع ما يوحى إليه وما لم ينزل عليه وحي في شأنه فعليه أن يصرف اجتهاده كما أشار إليه قوله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد: 30].
فكان ذلك موقع هذه الوصية المفرغة في قالب المعاتبة للتنبيه إلى الاكتراث بتتبع تلك المراتب وغرس الإِرشاد فيها على ما يرجى من طيب تُربتِهَا ليخرج منها نبات نافع للخاص وللعامة.
والحاصل أن الله تعالى أعلم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ذلك المشرك الذي محضه نصحَه لا يُرجى منه صلاح، وأن ذلك المؤمن الذي استبقى العناية به إلى وقت آخر يزداد صلاحاً تفيد المبادرةُ به، لأنه في حالة تلهفه على التلقّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد استعداداً منه في حين آخر.
فهذه الحادثة منوال ينسج عليه الاجتهاد النبوي إذا لم يرد له الوحي ليعلم أن من وراء الظواهر خبايا، وأن القرائن قد تَستُر الحقائق.
وفي ما قررنا ما يعرف به أن مرجع هذه الآية وقضيتها إلى تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد فيما لم يُوحَ إليه فيه، وأنه ما حاد عن رعاية أصول الاجتهاد قيد أنملة.
وهي دليل لما تقرر في أصول الفقه من جواز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم ووقوعه، وأنه جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين بحسب الظاهر، لأن السرائر موكولة إلى الله تعالى، وأن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لا يخطئ بحسب ما نصبه الله من الأدلة، ولكنه قد يخالف ما في علم الله، وأن الله لا يقر رسوله صلى الله عليه وسلم على ما فيه مخالفة لما أراده الله في نفس الأمر.
ونظير هذه القضية قضية أسرى بدر التي حدثت بعد سنين من نزول هذه الآية والموقف فيهما متماثل.
وفي قوله تعالى: {وما يدريك لعله يزكى} [عبس: 3] إيماء إلى عذر النبي صلى الله عليه وسلم في تأخيره إرشاد ابن أم مكتوم لما علمت من أنه يستعمل في التنبيه على أمر مغفول عنه، والمعنى: لعله يزّكى تزكية عظيمة كانت نفسه متهيئة لها ساعتئذ إذ جاء مسترشداً حريصاً، وهذه حالة خفية.
وكذلك عذره في الحرص على إرشاد المشرك بقوله: {وما عليك ألا يزكى} [عبس: 7] إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى تبعة من فوات إيمان المشرك بسبب قطع المحاورة معه والإِقبال على استجابة المؤمن المسترشد.
فإن قال قائل: فلماذا لم يُعلِم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم.
قلنا: لأن العلم الذي يحصل عن تبيُّن غفلة، أو إشعارٍ بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تعطش ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين وليحصل للنبيء صلى الله عليه وسلم مزية كِلا المقامين: مقام الاجتهاد، ومقام الإِفادة.
وحكمة ذلك كله أن يُعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا المهيع من على الاجتهاد لتكون نفسه غير غافلة عن مثله وليتأسى به علماء أمته وحكامها وولاة أمورها.
ونظير هذا ما ضَربه الله لموسى عليه السلام من المثَل في ملاقاة الخضر، وما جرى من المحاورة بينهما، وقول الخضر لموسى: {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً} [الكهف: 68] ثم قوله له: {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً} [الكهف: 82].
وقد سبق مثله في الشرائع السابقة كقوله في قصة نوح: {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} [هود: 46] وقوله لإبراهيم: {لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124].
هذا ما لاح لي في تفسير هذه الآيات تأصيلاً وتفصيلاً، وهو بناء على أساس ما سبق إليه المفسرون من جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإِعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم، ومن العُبوس له، والتولّي عنه، ومن التصدّي القوي لدعوة المشرك والإِقبال عليه.
والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتُه من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم: «مرحباً بمن عاتبني ربي لأجله» إنما هو عتاب على العُبوس والتولّي، لا على ما حفّ بذلك من المبادرة بدعوة، وتأخير إرشاد، لأن ما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة من سبيل الإِرشاد لا يستدعي عتاباً إذ ما سلك إلا سبيل الاجتهاد القويم لأن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاهُ إرشادَانِ لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر، هما: إرشاد كافر إلى الإِسلام عساه أن يسلم، وإرشاد مؤمن إلى شُعَب الإِسلام عساه أن يزداد تزكية.
وليس في حال المؤمن ما يفيت إيماناً وليس في تأخير إرشاده على نية التفرغ إليه بعد حين ما يُنَاكِد زيادة صلاحه فإن زيادة صلاحه مستمرة على ممر الأيام.
ومن القواعد المستقرأة من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، ونفيُ الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر، فلم يسلك النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه.
وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة: {فاتقوا اللَّه ما استطعتم} [التغابن: 16] وهو القائل: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما اقتطع له قطعة من نار» وهو القائل: «أمرت أن أحكم بالظاهر واللَّه يتولى السرائر» وهو حديث صحيح المعنى وإن كان في إسناده تردد.
فلا قِبل له بعلم المغيبات إلا أن يطلعه الله على شيء منها، فلا يعلم أن هذا المشرك مضمر الكفر والعناد وأن الله يعلم أنه لا يؤمن ولا أن لذلك المؤمن في ذلك صفاءَ نفس وإشراقَ قلب لا يتهيآن له في كل وقت.
وبذلك يستبين أن ما أوحى الله به إلى نبيئه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة هو وحي له بأمر كان مغيباً عنه حين أقبل على دعوة المشرك وأرجأ إرشاد المؤمن.
وليس في ظاهر حالهما ما يؤذن بباطنه وما أظهرَ اللَّهُ فيها غيْبَ علمه إلا لإِظهار مزية مؤمن راسخ الإِيمان وتسجيل كفر مشرك لا يُرجى منه الإِيمان، مع ما في ذلك من تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بما عَلِمه الله من حسن أدبه مع المؤمنين ورفع شأنهم أمام المشركين.
فمناط المعاتبة هو العبوس للمؤمن بحضرة المشرك الذي يَستصغر أمثال ابن أم مكتوم، فما وقع في خلال هذا العتاب من ذكر حال المؤمن والكافر إنما هو إدماج لأن في الحادثة فرصَةً من التنويه بسمو منزلة المؤمن لأنطواء قلبه على أشعة تؤهله لأن يستنير بها ويفيضها على غيره جمعاً بين المعاتبة والتعليم، على سنن هدي القرآن في المناسبات. اهـ.